عدد المساهمات : 215 النشاط : 0 تاريخ التسجيل : 19/10/2009
موضوع: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ الجمعة أكتوبر 23, 2009 1:54 pm
ظاهرة الشفق من الظواهر الكثيرة التي أثارت أهتمام الناس منذ القدم
قال الله عز وجل:﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ * َفمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ القرآن لاَ يَسْجُدُونَ ﴾(الانشقاق:16- 21).
أولاً- هذه الآيات وردت في بداية المقطع الثالث والرابع من سورة الانشقاق , وفيها يعرض الحق جل وعلا بعض الظواهر الكونية الحاضرة، مما يقع تحت حس الإنسان، مع التلويح بالقسم بها، تشريفًا لها وتعريضًا للاعتبار بها، على أن الناس متقلبون في أحوال مقدرة مدبرة , لا مفر لهم من ركوبها ومعاناة أهوالها وشدائدها. فاليد التي تمسك بأقدار هذا الكون، وترسم خطواته، وتبدل أحواله، قادرة أن تبدل أحوال الناس الذين يعيشون في هذا الكون، وتنقلهم من حياة إلى موت، ومن بعث إلى حساب، فما لهؤلاء القوم لا يؤمنون بصحة البعث والقيامة، وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون بعد أن وضحت لهم الدلائل ؟
وأول ما ينبغي التنبيه إليه هو أن قوله تعالى: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ ﴾ تلويح بالقسم، خلافًا لما أجمع عليه علماء النحو والتفسير من أنه قسم صريح، و( لا ) فيه ليست بزائدة، أو لنفي ما قبلها، أو لنفي القسم ؛ وإنما هي لنفي الحاجة إلى القسم. والفرق بين القسم، والتلويح به: أن القسم لا يكون إلا على الأشياء التي تكون موضع شك عند المخاطب. أما التلويح بالقسم فيكون على الأشياء اليقينية الثابتة التي لا يتطرق إليها الشك أبدًا. وبيان ذلك وتفصيل القول فيه موجود في المقال الآتي لا أقسم: أقسم هو، أم غير قسم ؟.
وقوله تعالى:﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ﴾ جواب للتلويح بالقسم، وهو كما قال ابن عاشور:« جملة نُسِجَ نظمُها نسجًا مجملاً، لتوفير المعاني التي تذهب إليْها أفهام السامعين، فجاءت على أبدع ما يُنْسَج عليه الكلام الذي يُرسَل إرسال الأمثال من الكلام الجامع البديع النسْج الوافر المعنى ؛ ولذلك كثرت تأويلات المفسرين لها. فلمعاني الركوب المجازية، ولمعاني الطبَق من حقيقي ومجازي، مُتَّسَع لما تفيده الآية من المعاني، وذلك ما جعَل لإِيثار هذين اللفظين في هذه الآية خصوصية من أفنان الإعجاز القرآني ».
والظواهر الملوح بالقسم بها هي:﴿ الشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ﴾، وهي من الظواهر الكونية الرائعة التي تدل على عظمة الخالق جل وعلا، وتشهد له بالألوهية والربوبية والوحدانية، يعرضها الخالق جل وعلا في لمحات سريعة خاطفة تغمر النفس رهبة وجلالاً، وتملأ القلب خوفًا وخشوعًا، وهي ذات ظلال موحية تتفق مع ظلال مطلع السورة، ومشاهدها بصفة عامة، وتتناسب مع ما يدل عليه قوله تعالى:﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ﴾ من تفاوت الأحوال التي يختبط الناس فيها يوم القيامة.
أما ﴿ الشَّفَقُ ﴾ فهو ضياء من شعاع الشمس يظهر في الأفق عندما يحجبها عن عيون الناس بعض جرم الأرض، بعد غروب الشمس وقبل شروقها، ويمثل فترة الانتقال من النهار إلى الليل، ومن الليل إلى النهار . وقيل: سُمِّيَ بالشفق لرقَّته، ومنه الشفقة التي هي عبارةٌ عن رقَّة القلب. وتعد ظاهرة الشفق من روائع الظواهر الكونية التي حيَّرت العلماء، وربما يكون أجمل أنواع الشفق ذلك الذي يتجلى في منطقة ( القطب الشمالي ) للكرة الأرضية، وهو ما سماه العلماء ( الشفق القطبي )، حيث تظهر السماء بألوان زاهية بالأخضر والأحمر والأصفر والأزرق وغير ذلك. وسبب تكونه هو وجود أشعة أو رياح شمسية تأتي من الشمس، وتتفاعل مع طبقات الغلاف الجوي العليا للأرض، ومع المجال المغنطيسي المحيط بها، فيكون الناتج تلك الصور الإلهية الرائعة.
وأما ﴿ اللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ﴾ فالمراد به: الليل وما جمع وضم. وقيل: الليل وما علا، فلم يمتنع منه شيء. فإذا جلَّل الليل الجبال والأشجار والبحار والأرض والنجوم فاجتمعت له، فقد وسقها. و( ما ) تفيد التعميم والتهويل، وتحتمل المصدرية والموصولة، والجمهور على الثاني، والعائد محذوف. أي: والذي وسقه. والوَسْق: جمع الأشياء المتفرقة بعضها إلى بعض. وأصل الوسق: الحمل المحمول على ظهر البعير.
وأما ﴿ الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ﴾ فالمراد به: إذا اجتمع نوره واكتمل بدرًا. والاتساق: الاجتماع، وهو افتعال من الوَسْق بمعنى الجمع - كما تقدم آنفًا - يقال: وَسَقَهُ فاتَّسَقَ. أي: جمعه فاجتمع. وأصل اتَّسَقَ: اوْتَسَقَ، قلبت الواو تاء فوقية، ثم أدغمت في تاء الافتعال، وهو قلب مطَّرد.
ثانيًا- ويزعم بعض الباحثين في أسرار الإعجاز العلمي للقرآن أن في قوله تعالى:﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ﴾(الانشقاق: 19) إشارة علمية إلى إمكانية الصعود إلى القمر والكواكب الأخرى. ولعل آخر من كتب في هذا الموضوع الباحث عبد الدايم الكحيل، فقد كتب في موقعه ( أسرار الإعجاز العلمي في القرآن والسنة ) مقالاً قصيرًا بعنوان الوصول إلى القمر )، بدأه بشرح الآيات السابقة، فقال ما نصُّه:
« يقسم تبارك وتعالى بظاهرة الشفق، وهذه الظاهرة من أجمل الظواهر الكونية، والله يقسم بما يشاء من مخلوقاته، ويقسم كذلك بالليل وما حوى، وبالقمر ومنازله، أن الناس سيركبون طبقًا عن طبق ».
ثم تحدث عن الحقيقة العلمية، فقال:
« في 20 تموز من عام 1969 نزل رائدا الفضاء الأمريكيان: نيل أمسترنغ، وأدوين الدري إلى سطح القمر، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يهبط فيها الإنسان على سطح القمر. لقد استخدموا في هذه الرحلة مركبة الفضاء التي هي عبارة عن طبق من المعدن، ومن ثم تطور علم الفلك كثيرًا وتطورت مراكب الفضاء، ففي كل عام يبتكر العلماء مراكب فضاء بتقنيات متطورة أكثر حتى إنهم اخترعوا آلاف الأنواع لهذه المراكب، وأصبحت المركبة الواحدة تتألف من عدة طوابق أو طبقات ».
وانتهى من ذلك إلى بيان وجه الإعجاز في الآية الأخيرة فقال:
« من خلال الآية الكريمة ﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ﴾ نرى إشارة إلى إمكانية صعود الإنسان إلى القمر، خصوصًا أن هذه الآية تأتي بعد ذكر القمر ﴿ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ﴾، وهذه الإشارة تحققت في القرن العشرين، بما يدل على أن القرآن كتاب الله، وأنه يتطابق مع العلم الحديث ».
وهذا يعني أن المراد بركوب الطبق في الآية الكريمة: ركوب المركبة الفضائية، وأن الله سبحانه– كما قال بعضهم - يقسم بهذه الظواهر الكونية على أن الإنسان لن يقتصر على ركوب الدواب والسفن والإبل التي سخرها الله له خلال آلاف السنين ؛ بل سيأتي زمن تتطور فيه العلوم، ويركب هذا الإنسان طبقًا بعد طبق. أي: تتطور هذه الوسائل المستخدمة للنقل من القطار مثلاً، إلى الطائرة، ثم إلى المراكب الفضائية، ثم إلى المراكب الفضائية المتطورة جدًا.
وقال الباحث محمد سمير العرش:« ولفظ طبق وطباق وأطباق ورد في القرآن إشارة لمستويات السموات المتعددة، بمعنى أننا سنصعد لطبقات عدة في الفضاء، وبالفعل بدأنا بالبالون الذي ارتفع 300 متر، ثم المنطاد الذي ارتفع إلى 3 كلم، ثم طائرات الحرب العالمية الأولى التي ارتفعت إلى 3 كلم، ثم طائرات الحرب العالمية الثانية التي ارتفعت إلى 6 كلم، ثم الطائرات النفاثة التي ارتفعت إلى 10-20 كلم، ثم الصواريخ التي ارتفعت إلى 400 كلم فما فوق حتى وصلنا القمر، ثم مكوك الفضاء، ثم تعدينا القمر للكواكب الأخرى عن طريق المسابير الفضائية حتى خرجنا من المجموعة الشمسية ».
وأضاف هذا الباحث قائلاً:« والذين يزعمون أن المقصود بالطبقات هو أحوال الموت والحياة، أسألهم: هل ورد في القرآن الكريم لفظ ( طبق - طباق – أطباق ) إلا فيما يخص السماوات فقط ؟ ».
والغريب في أمر هذا الباحث أنه ذهب إلى أن المراد بالسموات السبع التي ورد ذكرها في القرآن هو الغلاف الجوي بطبقاته السبع، وأن السماء الدنيا هي الطبقة الأولى من هذا الغلاف الذي يحفظ الأرض وسكانها من النيازك المدمرة والإشعاعات القاتلة القادمة إلينا من الشمس والكواكب الأخرى في الكون الفسيح. ولولا هذا الغلاف الجوي الذي يحفظ الأرض، لانعدمت الحياة على الأرض كما انعدمت على القمر. ويستشهد على ذلك بقوله تعالى:﴿ وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ﴾(الأنبياء: 32). ثم يقول بعد هذا كله:« وباختراع الصواريخ ارتفع الإنسان إلى 400 كم، ثم نفذ من الغلاف الجوي بطبقاته السبع لكوكب الأرض، ثم سافر للقمر والكواكب الأخرى القريبة كالمريخ والزهرة، ثم تطور للمكوك الفضائي ذي المسافات الأبعد والاستخدامات المتعددة، وخرج المسبار بايونير 10 خارج المجموعة الشمسية بعد أن تعدى كوكب بلوتو. ثم يخطط العلماء لسفن فضائية أحدث تقلهم لنجوم أخرى ».
ثالثًا- ومن قبل هؤلاء الباحثين الذين رأوا في الآية الكريمة سبقًا علميًّا إعجازيًا، ذهب الشيخ محمد أمين الشنقيطي في تفسيره ( أضواء البيان ) إلى عدم إمكانية الوصول إلى القمر، وأنكر قول القائلين به، ووصفهم بالجهل بكتاب الله سبحانه، وساق الأدلة على ذلك من آيات القرآن الكريم ؛ ومنها قول الله عز وجل:
وتعقيبًا على الآية الثانية قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله:« صرح تعالى في هذه الآية أنه حفظ السماء من كل شيطان رجيم، وبين هذا المعنى في مواضع أخر ؛ كقوله:﴿وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ﴾(الصافات: 7)، وقوله:﴿ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ ﴾(الملك: 5)، وقوله:﴿ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾(الجن: 9)، وقوله:﴿ إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ ﴾(الشعراء: 212)، وقوله:﴿ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾(الطور: 38).. إلى غير ذلك من الآيات ».
ثم قال:« يؤخذ من هذه الآيات التي ذكرنا أن كل ما يتشدق به أصحاب الأقمار الصناعية، من أنهم سيصلون إلى السماء ويبنون على القمر كله كذب وشقشقة لا طائل تحتها. ومن اليقين الذي لا شك فيه أنهم سيقفون عند حدهم ويرجعون خاسئين أذلاء عاجزين ».
ووجه دلالة الآيات المذكورة عنده على ما ذهب إليه أن اللسان العربي الذي نزل به القرآن يطلق اسم الشيطان على كل عات متمرد من الجن والإنس والدواب. ولا شك أن أصحاب الأقمار الصناعية يدخلون في اسم الشياطين دخولاً أولياً لعتوهم وتمردهم.. وانتهى من ذلك إلى القول:
« وإذا علمت ذلك، فاعلم أنه تعالى صرح بحفظ السماء من كل شيطان كائنًا من كان، في عدة آيات من كتابه ؛ كقوله هنا:﴿ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ﴾(الحجر: 17)، وقوله:﴿ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم ﴾(فصلت: 12).. إلى غير ذلك من الآيات. وصرح بأن من أراد استراق السمع، أتبعه شهاب راصد في مواضع أخر ؛ كقوله:﴿فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾(الجن: 9)، وقوله:﴿ إِلاَّ مَنِ استرق السمع فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِين ﴾(الحجر: 18)، وقوله:﴿ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴾(الصافات: 10)، وقال:﴿ إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ ﴾(الشعراء: 212)، وقال:﴿ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾(الطور: 38) ؛ وهو تعجيز دال على عجز البشر عن ذلك عجزًا مطلقًا ».
وأما بخصوص الآية التي نحن بصدد الحديث عنها فقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله:« وكذلك ما يزعمه من لا علم عنده بمعنى كتاب الله جل وعلا أن الله تعالى أشار بقوله:﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ﴾(الانشقاق: 19) إلى أن أهل الأرض سيصعدون إلى السموات واحدة بعد أخرى، زاعمًا أن معنى الآية الكريمة: لتركبن أيها الناس طبقًا. أي: سماء عن طبق. أي: بعد سماء حتى تصعدوا فوق السموات، فهو أيضًا جهل بكتاب الله، وحمل له على غير ما يراد به ».
وأضاف الشيخ الشنقيطي قائلاً: « اعلم أولاً أن في هذا الحرف قراءتين سبعيتين مشهورتين:
إحداهما: ﴿ لَتَرْكَبَنَّ ﴾، بفتح الباء، وبها قرأ من السبعة: ابن كثير وحمزة والكسائي. وعلى هذه القراءة ففي فاعل ﴿ لَتَرْكَبَنَّ ﴾ ثلاثة أوجه معروفة عند العلماء:
الأول: وهو أشهرها أن الفاعل ضمير الخطاب الواقع على النبي. أي: لتركبن أنت يا نبيَّ الله طبقًا عن طبق. أي: بعد طبق. حالاً بعد حال. أي: فترتقي في الدرجات درجة بعد درجة. وقال ابن مسعود والشعبي ومجاهد وابن عباس في إحدى الروايتين والكلبي وغيرهم:﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ﴾. أي: لتصعدن يا محمد سماء بعد سماء. وقد وقع ذلك ليلة الإسراء.
والثاني: أن الفاعل ضمير السماء. أي: لتركبن هي. أي: سماء طبقًا. أي: لتنتقلن السماء من حال إلى حال. أي: تصير تارة كالدهان، وتارة كالمهل، وتارة تتشقق بالغمام، وتارة تطوى كطي السجل للكتب.
والثالث: أن الفاعل ضمير يعود إلى الإنسان المذكور في قوله:﴿ يا أيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً ﴾(الانشقاق: 6) الآية. أي: لتركبن أيها الإنسان حالاً بعد حال، من صغر إلى كبر، ومن صحة إلى سقم كالعكس، ومن غنى إلى فقر كالعكس، ومن موت إلى حياة كالعكس، ومن هول من أهوال القيامة إلى آخر.. وهكذا.
والقراءة الثانية: وبها قرأ من السبعة: نافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم:﴿ لَتَرْكَبُنَّ ﴾، بضم الباء، وهو خطاب عام للناس المذكورين في قوله:﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ﴾(الانشقاق: 7)، إلى قوله:﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ ﴾(الانشقاق: 10) الآية. ومعنى الآية: لتركبن أيها الناس حالاً بعد حال، فتنتقلون في دار الدنيا من طور إلى طور، وفي الآخرة من هول إلى هول ».
واستطرد الشيخ الشنقيطي رحمه الله قائلاً:« فإن قيل: يجوز بحسب وضع اللغة العربية التي نزل بها القرآن، على قراءة ضم الباء، أن يكون المعنى: لتركبُّن أيها الناس طبقًا بعد طبق. أي: سماء بعد سماء، حتى تصعدوا فوق السماء السابعة ؛ كما تقدم نظيره في قراءة فتح الباء، خطابًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان هذا جائزًا في لغة القرآن فما المانع من حمل الآية عليه ؟ فالجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أن ظاهر القرآن يدل على أن المراد بالطبق الحالُ المتنقل إليها من موت ونحوه، وهول القيامة، بدليل قوله بعده مرتبًا له عليه بالفاء:﴿ فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ القرآن لاَ يَسْجُدُونَ ﴾(الانشقاق: 20-21) ؛ فهو قرينة ظاهرة على أن المراد: إذا كانوا ينتقلون من حال إلى حال، ومن هول إلى هول، فما المانع لهم من أن يؤمنوا، ويستعدوا لتلك الشدائد ؟ ويؤيده أن العرب تسمي الدواهي: بناتِ طبق ؛ كما هو معروف في لغتهم.
الوجه الثاني: أن الصحابة - رضي الله عنهم - هم المخاطبون الأولون بهذا الخطاب، وهم أولى الناس بالدخول فيه، بحسب الوضع العربي، ولم يركب أحد منهم سماء بعد سماء بإجماع المسلمين، فدل ذلك على أن ذلك ليس معنى الآية. ولو كان، لما خرج منه المخاطبون الأولون بلا قرينة على ذلك.
الوجه الثالث: هو ما قدمنا من الآيات القرآنية المصرحة بحفظ السماء وحراستها من كل شيطان رجيم كائنًا من كان. فبهذا يتضح أن الآية الكريمة ليس فيها دليل على صعود أصحاب الأقمار الصناعية فوق السبع الطباق، والواقع المستقبل سيكشف حقيقة تلك الأكاذيب والمزاعم الباطلة ».
رابعًا- وتعقيبًا على ذلك كله نقول:
1- إذا كان لا يجوز حمل الآية، على قراءة:﴿ لَتَرْكَبُنَّ ﴾ بضم الباء، على معنى: لتركبُّن أيها الناس سماء بعد سماء، حتى تصعدوا فوق السماء السابعة، فكذلك لا يجوز حملها، على قراءة:﴿ لَتَرْكَبَنَّ ﴾ بفتح الباء، على معنى: لتصعدن يا محمد سماء بعد سماء، خلافًا لقائله ؛ لأن القراءتين متواترتان، ولا يجوز حمل إحداهن على معنى مناقض لمعنى الأخرى. وبالتالي لا يوجد في الآية، على القراءتين، دليل على صعود الإنسان إلى القمر، أو السموات السبع الطباق. وبيان ذلك:
أن قوله تعالى:﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ﴾(16 - 19) جاء تفريعًا بالفاء على ما أجمل وفصل قبله في المقطع السابق ؛ وهو قوله تعالى:
وهو خطاب يشمل الإنسان المؤمن والكافر ؛ كما يؤذن به التقسيم بعده إلى:﴿ مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ﴾، وهو المؤمن، و﴿ مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ﴾، وهو الكافر. هذا الإنسان الذي يكدح في عمله طوال حياته ؛ إنما يكدح إلى لقاء ربه كدحًا. أي: يكدح إلى الموت وما بعده من أهوال يوم القيامة وشدائدها كدحًا، من غير صارف يلويه عن ذلك.
فأما المؤمن فسوف يحاسب حسابًا هيِّنًا، وينقلب إلى أهله مسرورًا بما أعد الله تعالى له في الجنة من النعيم.. وأما الكافر فسوف يدعو ثبورًا، ويصلى سعيرًا ؛ إنه كان في أهله فرحًا بطرًا مترفًا، بما أعطي في الدنيا من النعيم، لا يعرف الله ولا يفكر في عاقبته، فلم يعمل شيئًا للآخرة، ظنًّا منه أن لن يرجع إلى ربه، ولن يتغير عن حاله، تكذيبًا منه بالمعاد والحساب والجزاء، ولم يخطر بباله أبدًا أن ربه الذي خلقه كان بصيرًا به وبأعماله، بحيث لا يخفى عنه منها خافية، فلا بدَّ من رجعه وحسابه عليها حسابًا عسيرًا، وجزائه بما يستحق من عقاب.
هذا الإنسان الكافر الذي ظن أن لن يحور. أي: أن لن يبعث، هو المقصود الأول من هذا الوعيد الذي تضمنه هذا الخطاب ؛ لأنه هو الذي أنكر البعث وكذب به، بخلاف المؤمن. فالخطاب بالنسبة إلى المؤمن زيادة تذكير وتبشير، وهو بالنسبة إلى هذا الكافر زيادة للإنذار ؛ ولهذا جاء الرد عليه بقوله تعالى:﴿ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ﴾(15). أي: بلى ليحورنَّ. أي: ليبعثن ؛ فربه الذي خلقه كان بصيرًا به وبأعماله. ثم عقَّب سبحانه وتعالى على ذلك بقوله:
ملوِّحًا بالقسم بهذه الظواهر الكونية التي تقع تحت حس هذا الإنسان على أن الناس ليركبن طبقًا عن طبق. أو أن الإنسان ليركبن طبقًا عن طبق. فعلى الأول يكون الخطاب لجنس الإنسان باعتبار شموله لأفراده، وهو المنادى أولاً بقوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾(6). وعلى الثاني يكون الخطابِ للإنسانِ باعتبارِ لفظه.
والفاء في قوله تعالى:﴿ فَلَا أُقْسِمُ ﴾- كما قال الألوسي- واقعة في جواب شرط مقدر. أي: إذا عرفت هذا. أو: إذا تحقق الحور بالبعث، فلا أقسم بالشفق.. ». ونظير ذلك قوله تعالى:
والمخاطب في الموضعين واحد، وهو الكافر المكذب بالبعث. والفرق بينهما هو فرق بين القسم، والتلويح بالقسم. فإذا علمت ذلك، تبين أنه لا يجوز حمل قوله تعالى:﴿لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ﴾ بفتح الباء، على أن المخاطب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويؤيد ذلك ما ذهب إليه بعضهم من أن المراد بالإنسان المخاطب بقوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾(6) الأسود بن هلال المخزومي، جادل أخاه أبا سلمة في أمر البعث، فقال أبو سلمة: إي، والذي خلقك، لتركبن الطبقة، ولتوافين العقبة. فقال الأسود: فأين الأرض والسماء ؟ وما حال الناس ؟ لاحظ قوله:« لتركبن الطبقة، ولتوافين العقبة ».
2- أما ( الركوب ) في قوله تعالى:﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ﴾ فالمراد به: الملاقاة والمعاناة. والعرب تعبر عن ملاقاة الأمور ومعاناتها بركوبها. والتعبير بركوب الأهوال والأخطار مألوف في اللسان العربي ؛ كقولهم:« إن المضطر يركب الصعب من الأمور » ؛ وكأن تلك الأهوال والأخطار مطايا يركبها الناس تنقلهم من حال إلى حال.
وأما ( الطبق ) في اللغة فيطلق على كل غطاء لازم، ويجمع على: أطباق وأطبِقة. والطَّبَقُ أيضا من كل شيءٍ: ما ساواه. والطَّبَقُ: وجه الأرضِ، والذي يُؤْكَلُ عليه. وعَظْمٌ رقيق يفصل بين كل فَقارَيْنِ. والطَّبَقُ: الأمة بعد الأمة. والقَرْنُ من الزمان، أو عشرون سنة. والطَّبَقُ من الناس: الجماعةُ يعدلون جماعة مثلهم. والطَّبَقُ من المطر: العامُّ. ومن الليل والنهار معظمهما. والطَّبَقُ: سد الجراد عين الشمس. والطَّبَقُ: انطباق الغيم في الهواء. والطَّبَقُ: الدَّرَكُ من أدراك جهنم. والسموات طباقٌ، بعضها فوق بعض. الواحدة: طَبَقَةٌ، ويُذكَّر، فيقال: طَبَقٌ واحد. والطَّبَقُ: الشدة والمشقة. وبِنْتُ الطَّبَق: الداهية، والعَربُ تقولُ: وقَع فلانٌ في بَناتِ طَبَق: إذا وقَع في الأمر الشّديد. والطَّبَقُ والطَّبَقَةُ: الحال على اختلافها. يقال: كان فلان على أطباق وطبقات شتى من الدنيا. أي: على أحوال وحالات ؛ ومنه حديث عَمْرو بن العاص:« إنّي كُنتُ على أطْباقٍ ثلاث ». أي: أحْوال. وقول الأقرع بن حابس التميمي:
إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره... وساقني طبق منها إلى طبق
أي: ساقني حال منها إلى حال.
وهذا القول الأخير في تفسير معنى الطبق هو أشهر الأقوال وأولاها، وعليه حمل الجمهور قوله تعالى:﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ﴾، والمعنى: لتُلاقُنَّ حالاً عن حال، كلُّ واحدة منها مطابقة لأختها في الشدةِ والفظاعةِ ». والأوفقُ للركوبِ المنبىءُ عن الاعتلاءِ على ما قيل: أن يكون طبق جمع: طبقة، وهي المرتبةُ، والمَعْنَى: لتركَبُنَّ أحوالاً عن أحوال، هي طبقاتٌ في الشدةِ، بعضُها أرفعُ من بعضٍ، وهي الموت وما بعده من مواطنِ القيامةِ ودواهيها. ويؤيد ذلك أن الغرض من تنكير ( طبق ) هو التعظيم والتهويل.
ومن هنا يخطىء كل من حمل الركوب في الآية على حقيقته، ثم فسر الطبق فيها بغير ما فسره أئمة اللغة ؛ فركوب الطبق في الآية ليس كروب المركبة أو الطائرة ؛ كما أن قولك: ركب الصعب، ليس كقولك: ركب الحمار. وقولك: ركب رأسه، ليس كقولك: ركب فرسه. والظاهر أن أولئك الذين زعموا أن في الآية إشارة أو دليلاً على الصعود إلى السموات السبع قد ركبوا رؤوسهم حين فسروا ركوب الطبق بركوب المركبة الفضائية.
3- وأما ( عن ) في اللغة فتقتضي مجاوزة ما أضيفت إليه، وتفيد في نحو قولك: فعلت هذا عن أمرك، أن ما بعدها مصدر وسبب لما قبلها، فيكون المعنى: فعلته مجاوزًا أمرك وبسببه. أي: إن أمرك سببٌ لحصول فعلي. ونظير ذلك قولك: أطعمته عن جوع، معناه: أن الجوع سببٌ لحصول الإطعام ؛ ومن ذلك قوله تعالى:﴿ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾(الكهف: 50). أي: أتاه الفسق لما أمر فعصى، فكان سبب الفسق أمر ربه. ونحو ذلك قوله تعالى:﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ﴾. أي: لتركبن طبقًا مجاوزين طبقًا كنتم تركبونه، وفق ما هو مرسوم لكم من تقديرات وأحوال. فـ( عن ) هنا على بابها من دلالتها على المجاوزة، والجمهور على أنها للبعدية، وأن المعنى: لتركبن طبقًا بعد طبق ؛ كما في قول كعب بن زهير:
كذلك المرء إن ينسأ له أجل... يركب على طبق من بعده طبق
وحملها في الآية على معنى المجاوزة الذي هو حقيقة فيها أولى من حملها على معنى البعدية ؛ لأن المراد من قول كعب ( يركب على طبق من بعده طبق ): يركب حالاً من بعده حال في الدنيا. أما قوله تعالى:﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ﴾ فالمراد منه: لتركبن أحوالاً يوم القيامة، مجاوزين أحوالاً كنتم تركبونها في الدنيا.. والله تعالى أعلم بمراده.
خامسًا- نخلص مما تقدم إلى أنه لو كان في قوله تعالى:﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ﴾ إشارة إلى إمكانية صعود الإنسان إلى القمر، أو دليل على صعود أصحاب الأقمار الصناعية فوق السبع الطباق، لكان كعب بن زهير في قوله السابق، والأقرع بن حابس التميمي في قوله:
إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره... وساقني طبق منها إلى طبق
وعَمْرو بن العاص في قوله:« إنّي كُنتُ على أطْباقٍ ثلاث »، من أوائل الرواد الذين جابوا الفضاء بمراكبهم الفضائية، وصعدوا إلى القمر وغيره من الكواكب، قبل أن توجد تلك المراكب.
والسؤال الذي ينبغي الإجابة عنه هو: إن كان المراد بالسموات السبع التي ورد ذكرها في القرآن هو الغلاف الجوي بطبقاته السبع، وهو الذي يحفظ الأرض وسكانها من النيازك المدمرة والإشعاعات القاتلة القادمة إلينا من الشمس والكواكب الأخرى، وأن السماء الدنيا هي الطبقة الأولى من هذا الغلاف، فكيف استطاع الإنسان بمركبته الفضائية أن يخترق هذا الغلاف الجوي بطبقاته السبع وينفذ إلى ما وراءه، فيسافر إلى القمر والمريخ والزهرة وبلوتو ؟ كيف، والله سبحانه وتعالى يقول:﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ ﴾(الملك: 5)، ثم يقول سبحانه:﴿ وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً ﴾(الأنبياء: 32) ؟
وإن كان المراد بالسموات السبع الكواكب السبع السيارة، أو أفلاكها، فكيف استطاع هذا الإنسان أن يسافر إلى تلك الكواكب، والله سبحانه يقول:﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً ﴾(الفرقان: 61)، ثم يقول سبحانه:﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلاَّ مَنِ استرق السمع فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِين ﴾(الحجر: 16- 18) ؟
وإن سلمنا جدلاً بأن شياطين الإنس تفوقوا على شياطين الجن، واستطاعوا بقدرتهم الخارقة أن يخترقوا السموات ويسافروا بمراكبهم الفضائية إلى الكواكب، فكيف استطاعوا أن يؤمنوا الحماية لأنفسهم من الأخطار التي تحدق به من كل جانب وهم يجوبون الفضاء ؟
وأختم بقول الله عز وجل:﴿ أََفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾(محمد: 24) ؟ نسأله سبحانه أن يجعلنا من الذين يفقهون كلامه، ويدركون أسرار بيانه. والحمد لله رب العالمين.
بقلم : محمد إسماعيل عتوك باحث في الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم